ماذا يمنع الدول العربية إنشاء إتحاد إقتصادي على غرار الإتحاد الأوروبي؟
رانيا حتي
بغض النظر عن الصراعات السياسية التي تطرأ بين الدول على مسار التاريخ، إلا أن الحقيقة الجغرافية تبقى أقوى من أي نزاع يمرّ عبر الزمن. المنطقة العربية عاشت صراعات عديدة منذ العهد العثماني ولا تزال. لم تتحرر الشعوب العربية وحكوماتها من عبء التصورات الجيوبوليتيكية التي ترافقها عند كل مفترق طريق. ولإرساء السلام والإستقرار، على الدول العربية أن تتكاتف وتتكافل إقتصادياً لإبعاد شبح الحروب والهيمنة والتسلّط والمجاعة خاصة في ظلّ أزمة وباء كورونا المستجدة، إنطلاقاً من الفكرة الأساسية التي تأسس عليها الإتحاد الأوروبي بإنشاء إتحاد إقتصادي للخروج من حالة التشرذم والإنقسام .
لعلّ الشعار الذي أطلقه وزيرالخارجية الفرنسي روبرت شومان Make war not only unthinkable but materially impossible أي " لن نجعل من الحرب أمراً غير وارداً فحسب، بل غير منطقي مادياً أيضاً " و التي بحسب رؤيته، بأنّ التعاون الاقتصادي الوثيق للغاية والمستدام بين الدول الأوروبية سيجعلها مترابطة لدرجة أنها ببساطة لن تتحمل ولن تقدر على محاربة بعضها البعض بعد الآن انطلاقاً من التكامل الإقتصادي لتحقيق السلام . فلنأخذ مثال على ذلك، حالة الحرب التي كانت مستعرة بين فرنسا وألمانيا ، حيث كل منهما حاول توسيع حدوده على حساب الآخر. إلاّ أن المصالحة التاريخية التي حققها شارل ديغول وكونراد أديناور كانت المدماك الأساسي لخلاص الدولتين المتجاورتين، وذلك بعد بلورة محرك ثنائي لبناء المجموعة الأوروبية والدفاع عن الفكرة الأوروبية كدعامة لعصر الاستقرار والسلام. إلمانيا وفرنسا اليوم يشكلان الدعامة الأساسية للإتحاد الأوروبي . إنه الدرس الأساسي لمنع إطلالة شبح الحروب من جديد.
حالة الصراع بين إلمانيا وفرنسا تشبه حالة الإنشقاقات بين العديد من الدول العربية .ولكن ماذا لو بدأت تلك الدول بالتفكير بشكل جديّ بإنشاء إتحاد إقتصادي إنتاجي على شاكلة الإتحاد الأوروبي، بدءاً من دولتين أو أكثر، وبخاصة الدول المتجاورة كسوريا لبنان والأردن والذي ربما قد يمتد إلى دول أخرى. فالإتحاد الأوروبي الكيان الجيوسياسي الذي يغطي جزءًا كبيرًا من القارة الأوروبية. تأسس بناءً على العديد من المعاهدات وخضع للتوسعات التي قادته من اتحاد مكون من 6 دول أعضاء وأصبح اليوم مكونًا من 27 دولة، حيث يضم أغلبية الدول في أوروبا.
لكن السؤال المحوري الذي يجب طرحه اليوم، بغض النظر عن أصوات النشاز المضادة والمعارضة لبناء كيان إقتصادي إتحادي. لماذا لا يمكن إسقاط تجربة نموذج الإتحاد الأوروبي على بعض الدول العربية بدءًا من التنسيق الوثيق للدول المشاركة في العديد من المجالات (مثل الزراعة) وفي حال نجاحها ستمتد إلى مجالات السياسة الإضافية بمرور الوقت.
نقترح بدايةً إبرام إتفاق إتحادي إقتصادي بين بعض الدول كلبنان، سوريا، الأردن والعراق على المستوى الزراعي يكون الهدف منه :
- رفع مستوى التنسيق بين قطاعي الزراعة والمياه من خلال نهج مؤسسي داعم التكامل واتساق السياسات الزراعية والمائية. باعتبار أن الأمن الغذائي قضية متعددة الأبعاد وتشمل، إلى جانب الإنتاج الزراعي، أبعاداً اجتماعية واقتصادية وبيئية مختلفة.
- تفعيل استراتيجية التنمية الزراعية المستدامة عبر تسليط الضوء على دور الممارسات الزراعية الجيدة في زيادة الإنتاج وتسهيل الوصول إلى أسواق التصدير، والامتثال لمعايير التجارة الدولية.
- تطوير إطار توجيهي يعزّز تبني الممارسات الزراعية الجيدة في المنطقة العربية، كخطوة أولى نحو اعتماد معايير إقليمية ملزمة لإنتاج وتبادل المحاصيل الزراعية وبرفع العقبات والحدود أمام تجارة الزراعة فضلاً عن حرية دوران القوة العاملة .
- إعتماد مبدأ "الحريّات الأربع" على غرار الإتحاد الأوروبي ، التي تقضي بتمكين الأفراد والسلع والخدمات ورأس المال من التحرّك بحريّة بين كافة الدول الأعضاء في الاتحاد.
إن تحقيق هكذا إقتراح، قد يُحدث انقلاباً في المشهد الإقتصادي على المستوى الزراعي ويُنعش الإقتصاد بشكل كبير، خاصة في ظلّ الأزمات الإقتصادية المستفحلة والترديّ الحاصل في بعض البلدان العربية خاصة في ظلّ وباء كورونا و ما بعده. لا شكّ إن الأزمة الصحية لانتشار فيروس كورونا أثرت على اقتصاديات دول العالم، و خاصة، الدول المصدرة للقمح، للدرجة التي أعلنت فيها أوكرانيا (سادس أكبر مصدر للقمح في العالم) وقف تصدير القمح للفترة القادمة، وقالت إن هدفها هو تحقيق الاكتفاء الذاتي، كما يضغط الرأي العام الأوكراني على حكومته لوقف التصدير بسبب ارتفاع أسعار الخبز هناك. كما أعلنت روسيا ( أكبر مصدر في العالم) وقف تصدير القمح آذار/مارس ٢٠٢٠، فضلاً عن الدول المصدّرة للقمح الطري مثل الولايات المتحدة الأميركية وأذربيجان وأوزبكستان، فهي ربما لن تصدّر القمح السنة القادمة، بهدف تغطية حاجات شعوبها إستراتيجياً.
إن أي هزة في القمح تعني مجاعة، ما يؤدي ذلك أيضاً إلى انفجار معيشي كبير قد يدمر كيان الدول العربية. لذا، على الأخيرة، المباشرة بخطة طوارئ زراعية لمواجهة أزمة الغذاء، حيث اليد العاملة والمياه والتربة الصالحة والمساحات الزراعية جميعها موجودة وبفائض كبير، خاصة في بعض الدول الغنية بالمياه مثل سوريا ولبنان ولكن ما ينقصهم فقط هي الإرادة، التخطيط، التصميم والتنفيذ. تلك الخطوة إن حصلت ستزرع الأمل للأجيال القادمة وستوفر بدورها سوق عمل نابض بالحياة، ما سينعكس الى فوائد اجتماعية لسكان الدول العربية ويمنع الحروب لا بل "يجعل من الحرب أمراً غير وارداً و غير منطقي أيضاً ". بالمقابل، اليوم يعتبر الإتحاد من أكبر التكتلات التجارية وأكبر مصدّر للخدمات والسلع المصنّعة في العالم، حيث يقوم على سوقاً موحداً يضمّ حوالي 500 مليون مستهلك .
نعلم بأن هناك عقبات وصعوبات كبيرة ستواجه تلك الدول لعدم تحقيق هكذا مشروع، ولكن يجب أن تكون الإرادة والإستقلالية أقوى. ولا بد أن يحذو رؤساء الدول العربية خطوة شارل ديغول وكونراد أديناور لبناء مستقبل أفضل لشعوب المنطقة العربية . فهل لدينا من الوقت الكافي للتفكير بعد، قبل اندحار الكيانات ليتحقق مشروع تكامل إقتصادي زراعي، أو زراعة صناعية ولو بشكل جزئي على غرار الإتحاد الأوروبي عوضاً عن الشعبوية والقومية المتشددة والانغلاق قبل الندم على ضياع الثروات في الصراعات وهجرة الشباب ؟
إرسال تعليق